ملخص تاريخ مصر الحديث في قضية:
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
متى يُحكم بموت المفقود؟ للشيخ أحمد إبراهيم مغيث:
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
صفحة من تاريخ القضاء الشرعي في مصر:
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ليس صحيحًا أن جمال عبد الناصر ألغى المحاكم الشرعية، فالحقيقة أن قرار إلغاء المحاكم الشرعية اتخذ منذ ستين عاما قبل جمال عبد الناصر، ولكن تنفيذه جاء على يد جمال عبد الناصر، اتخذ هذا القرار الخديو عباس حلمي الثاني بتعليمات من اللورد كرومر، وكانت الخطوة الأولى مجرد جس نبض الشيوخ والشعب، حيث أصدر الخديو قرارًا بتعيين اثنين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية أعضاءً في المحكمة العليا الشرعية، وقضاة المحكمة الأهلية لم يدرسوا في الأزهر ولم يمتحنوا في الشريعة التي هي قانون المحاكم الشرعية غير المكتوب، عندها وقف في وجهه الإمام حسونة النواوي وأجبره مرغما على التراجع عن هذا القرار بعد نشره في جريدة الوقائع.
انتظر الخديو أياما حتى هدأت الحال ثم عزل الشيخ النواوي من مشيخة الأزهر والإفتاء وكل مناصبه. كان الإجراء الثاني هو تعيين الشيخ محمد عبده مفتيًا ولم يكن الشيخ قاضيا شرعيا ولا ممارسًا للفقه تدريسًا أو قضاء أو تصنيفًا، وكلفه الخديو بكتابة تقرير عن المحاكم الشرعية، فكتب تقريره-بحسن نية-فأظهر سوء حالتها وحاجتها إلى الإصلاح في مرتبات القضاة ومباني المحاكم ونظمها الإدارية، فكان هذا التقرير أول مسمار دُق في نعش المحاكم الشرعية؛ لأنه لم تتخذ إجراءات حقيقية للإصلاح، بل بدأت سلسلة من الهجوم على المحاكم الشرعية، وانطلقت حملات مسعورة على مدى نصف قرن تهاجم المحاكم والقضاة الشرعيين في الصحافة والسينما وغيرهما، تواكبها سلسلة من إجراءات تقليص الاختصاصات والتضييق على القضاة.
لكن المحاكم الشرعية استمرت تعمل في ظروف صعبة وجو غير صحي على عكس المحاكم الأهلية التي كان يوفر لها كل الدعم ولقضاتها كل التبجيل.
هذه مجرد مقدمة تاريخية قبل أن أقدم لكم نموذجا لقضية من تلك القضايا التي نظرتها إحدى المحاكم الصغيرة في أقصى جنوب مصر لقاض مبتدئ لكنه فقيه مثقف وقانوني عتيد، أهَّلَهُ علمُه وثقافتُه ووعيه بالتاريخ إلى الترقى بعد ذلك في القضاء الشرعي حتى أصبح رئيسًا للتفتيش الشرعي بوزارة العدل ثم انتدب مفتيًا للديار المصرية بعد استقالة الشيخ حسنين مخلوف من منصب الإفتاء بعد خلافه مع الرئيس محمد نجيب على مشروع قانون الأحوال الشخصية سنة 1954. (مرفق صورة نادرة جدا للشيخ أحمد مغيث أهدانيها سبطه الأستاذ محمد عثمان ناصر)
وسوف أقدم لكم نص القضية بدون أي تعديل لتطلعوا على مصادر ثقافة القاضي وبلاغته وحسه التاريخي وتقارنوه بقضاة الواسطة والكوسة في أيامنا التعسات:
المبدأ:
- - -
إذا كان غياب المفقود في حالة لا يغلب معها هلاكه ثم توفرت لدى القاضي مظان وفاته وسِعَه أن يحكم بموته ويقسم تركته بين ورثته الموجودين وقت الحكم.
بالجلسة الجزئية المنعقدة علنا بمحكمة جرجا الشرعية في يوم الأربعاء 2 جمادى الآخرة سنة 1363 (24 مايو سنة 1944) لدي أنا أحمد إبراهيم مغيث القاضي بها، وبحضور الشيخ أحمد درويش كاتب الجلسة صدر الحكم الآتي في القضية الجزئية رقم 302 لنة 1943-1944 المرفوعة من عبد الله رضوان كمالي ضد أحمد السيد كمالي بطلب الحكم بوفاة مفقود.
الوقائع:
- - - -
تضمنت دعوى المدعي أن أحمد رضوان كمالي أخاه لأبيه غادر محل إقامته بناحية المجابرة مركز جرجا إلى الجهات البحرية في سنة 1914 طلبًا للرزق، ولم يعد للآن، ولم يهد البحث عنه إلى وجوده بجهة معينة، وانقطعت أخباره طول هذه المدة ولا يدري إن كان حيًّا أو ميتًا، وقد أقيم المدعى عليه وكيلًا عنه بقرار مجلس حسبي مركز جرجا بتاريخ 6 أغسطس سنة 1933 في القضية رقم 95 سنة 1933، فوضع يده على أطيانه المبينة بالدعوى وامتنع من تسليم المدعي نصيبه فيها باعتبار هذا المفقود ميتًا منحصرًا إرثه فيه وفي أخته لأبيه سعيدة، وطلب لذلك ولباقي الأسباب الواردة بدعوه الحكم له على المدعى عليه بوفاة أحمد رضوان كمالي المفقود وانحصار إرثه فيه وفي أخته لأبيه سعيدة واستحقاقهما لتركته، وأمْر المدعى عليه بأن يسلمه نصيبه في المحدود الوارد بالدعوى.
والمدعى عليه صادَقَ على أنه وكيل عن الغائب المذكور من قبل المجلس الحسبي وعلى وجود ماله المبين بالدعوى تحت يده، وعلى أنه تغيب عن ناحية المجابرة محل إقامته في سنة 1914 وعلى انقطاع أخباره طول هذه المدة وعلى أن ورثته الآن أخوه لأبيه-المدعي-وأخته لأبيه سعيدة فقط، وقدم قرار إقامته وكيلًا عن المفقود المذكور، وتحرت المحكمة إداريًّا عن تغيبه وعن مصيره الآن، واستند المدعي في إثبات الدعوى لشاهدين دونت شهادتهما بالمحضر، وصمم على الدعوى.
قرار المحكمة:
- - - - - - - -
من حيث أن المدعي ادعى هذه الدعوى وطلب ما طلبه بها؛
ومن حيث أن المدعى عليه صادق على جميع وقائعها غير جازم بوفاة المفقود المذكور؛
ومن حيث أن قرار المجلس الحسبي بإقامة المدعى عليه وكيلًا عنه دلَّ على تغيبه غيبة منقطعة من سنة 1914، وجهل محل إقامته، وأيد ذلك التحري الإداري الذي اتخذته المحكمة في هذه القضية؛
ومن حيث أنه ثبت من شهادة الشاهدين أن المفقود المذكور تغيب سعيًا وراء رزقه عن محل إقامته الأصلي إلى الجهات البحرية من سنة 1914، وأن البحث عنه لم يدل عليه، وأن أخباره انقطعت طول هذه المدة، وأنه ترك الأطيان الواردة بالدعوى تحت يد المدعى عليه يديرها بصفته وكيلًا عنه من المجلس الحسبي، وأن سنه وقت تغيبه كان خمسًا وعشرين سنة؛
ومن حيث أن المفقود المذكور جاء تغيبه في أبان الحرب العظمى الماضية التي اشتعلت نارها في سنة 1914 وأطفئت في سنة 1918، وأقبلت الآلاف الكثيرة من أمثاله تلتحق بأعمال السلطة العسكرية فيها طمعًا في الأجور المرتفعة التي كانت تصرف إليهم ولم تكن أرواحهم فيها مصونة، ثم أعقبت هذه الحرب الثورة المصرية، واشتركت فيها جميع طبقات الشعب، وتناولت يد الثائرين من أمثال المفقود المذكور تخريب المنشآت العامة فأصابهم بسبب ذلك ما أصابهم من مختلف الإصابات التي أودت بحياة الكثير منهم. فإذا لوحظ مع ذلك قيام الحرب العالمية التي نشاهدها الآن، واستلزمته من شن غارات مختلفة على ثغور القطر المصري وهي مأوى أمثال هذا المفقود، ولوحظ فوق كل هذا استمرار تغيبه ثلاثين سنة منقطعة أخباره عن أهله وذويه غير باحث عن أطيانه التي تركها، ومثله وهو فقير يسعى وراء اللقمة يأكلها لا يغفل أمر ملكه هذه المدة الطويلة وفيه حياة. فإذا راعينا مع كل هذا أن سِنَّه الآن خمس وخمسون سنة، وهي سن يموت عندها الكثير من أبناء هذا الزمن أمكن للمحكمة أن تستخلص من كل ما تقدم القرائن القاطعة على وفاة المفقود المذكور؛
ومن حيث أن المفقود تقسم تركته بين ورثته وقت الحكم بوفاته؛
ومن حيث أن ورثة المفقود المذكور الآن منحصرة في المدعي بصفته أخًا له من أبيه وفي أخته لأبيه سعيدة، وقد صمم المدعي على دعواه؛
لهذا؛ وبعد الاطلاع على المادتين رقم 21 و23 من القانون رقم 25 سنة 1929 حكمنا للمدعي على المدعى عليه بوفاة أحمد رضوان كمالي المفقود، وانحصار إرثه الشرعي في وارثيه الآن أخيه لأبيه عبد الله رضوان كمالي وأخته لأبيه سعيدة رضوان كمالي، واستحقاقهما لتركته تعصيبًا للذكر ضعف الأنثى، واكتفى المدعي بذلك حضوريًّا. (تعليق: لم يستأنف هذا الحكم).
" مغيث " صورة أرشيفية مفتى جرجا
المقال و الصورة
منقول من صفحة الاستاذ الدكتور عماد هلال