بعد عام 1820 استمرت الصادرات المصرية تشتمل على مقادير كبيرة من المنتجات الزراعية . وبحلول عام 1824 كان من بين أهم هذه الصادرات البقول والعدس والشعير . واستلزمت زراعة هذه المحاصيل الخاصة عددا قليلا من قوة العمل ، ولذلك توفر لكبار حائزي الأراضي القدر الأكبر من المنتجات القابلة للتسويق بالتوقيتات الزمنية المحددة اللازمة من العاملين بالمزارع بوصفها واجبا مفروضا عليهم . وبهذه الطريقة . كانت زراعة محاصيل من نوع البقول والشعير مصدر قوة لكبار ملاك الأراضي في صراعهم الدائم لحيازة السيطرة على الشئون الريفية من صغار الفلاحين المستقلين في الأقاليم .
ووجد ملاك الأراضي الزراعية الأكثر تركيزا في الريف المصري أنفسهم في وضع مميز على نحو متزايد في مواجهة الفلاحين الفقراء والصناع المهرة الريفيين نتيجة للآليات التي أدت إلى الحملات على الحجاز أثناء العقد الثاني للقرن التاسع عشر . وكانت الهيمنة المتنامية للفلاحين الأثرياء في السنوات التالية على عام 1815 تمثل جزءا من عودة ظهور عام للملكيات الخاصة الكبيرة في المناطق الريفية في هذا الوقت تقريبا . وكان لهذه العملية قواعدها في دمج ملكيات "الوسايا" في أنحاء الوجه البحري ومصر الوسطى بعد انتهاء الحملات على الحجاز . وكانت أرض الوسية – وهي تلك الأجزاء المحتفظ بها من الالتزامات القديمة ليقتصر استخدامها على الملتزم – تمثل نسبة كبيرة من إجمالي الأراضي الزراعية في هذه الأقاليم في عام 1817 . وتتوازن هذه الإحصائيات بمقارنة تقديرات إبراهيم عامر الذي يؤكد أنه خلال الجزء الأول من عهد محمد علي كانت 300 ألف فدان مملوكة كأبعاديات أو وسايا من إجمالي مليوني فدان من الأراضي المنزرعة بالبلاد . ويضع إبراهيم عامر 154 ألف فدان أخرى باعتبارها مسموح المشايخ . وهي الأراضي التي يملكها مشايخ القرى . وهذه الوسايا وغيرها من الملكيات الخاصة أعيد توزيعها بين أغنياء الفلاحين وشيوخ القبائل في أعقاب إلغاء نظام الالتزام في منتصف العقد الثاني من القرن التاسع عشر . وتنامت أهميتها خلال السنوات العشر التالية نظرا لأنها غدت أكثر ربحية لملاكها : وتنعكس الربحية الكبيرة لهذه الملكيات في تزايد عائدات الضرائب التي تسلمتها الدولة منهم بين عامي 1817 و 1822 . وكما يتضح من الجدول 4 – 1 ، فإن زيادة عائدات الدولة من أراضي الوسايا يساوي 40% في لامتوسط من أقاليم الوجه البحري ، وتستند هذه الأرقام على معدل للضرائب قال عنه محمد علي في نقد عنيف "جهد أقل كثيرا .. من الخراج الجديد" حتى إن ملاك الأراضي المحليين ربما كانوا يقومون بجمعه بأنفسهم .
وبحلول عام 1841 ، فإن هؤلاء الملتزمين السابقين الذين نجحوا في استعادة السيطرة على جزء من ملكياتهم بدأوا يلتمسون من الحكومة المركزية أن ينالوا حق جمع نسبة من الضرائب الواجبة الأداء عليهم . واكتشف "كينيت كونو" Kenneth Cuno أن الدولة بدأت تدفع لكبار ملاك الأراضي اموال الفايظ نحو عام 1822 ، بينما يفسر علي بركات ذلك بأن كلا من أراضي الوسايا ومدفوعات الفايظ أصبحت تورث في وقت ما في غضون الأعوام الأولى لعشرينيات القرن 19 . وزادت الرغبة بالحصول على اعتراف رسمي لشخص ما بأنه المستفيد من أملاك الوسية نظرا لأن أرباح زراعة المحاصيل النقدية استمرت في الارتفاع . وحسب ملاحظة كونو Cuno : "بالنسبة لأغلب الملتزمين كان الاحتفاظ بوساياهم له أهمية كبرى مقارنة بالتضاؤل السريع للفايظ لديهم . هذه أرض كانت عرضة للاحتكارات الزراعية للحكومة المركزية ومن جانب آخر لاتحسب عليها ضرائب ، وبالتالي كان الاحتفاظ بعدة أفدنة يستحق ذلك" . ونظرا لأنه أصبح بالإمكان انتقال أراضي الوسايا من مالكيها إلى ورثتهم ، لذلك فإن عددا قليلا من الملتزمين السابقين – وإن مازالوا جماعة سياسية بارزة – عادوا للظهور بوصفهم "ملاك أراضي كبار ، ومتوسطون ،وصغار مميزون في القرى التي كانوا فيها ذات يوم من كبار الملاك" . وعلى سبيل المثال فإن الالتزام القديم لحسن باشا طاهر بالقرب من برديس في جرجا ، ظل قائما حتى عام 1823 على ألأقل . وبعد 14 عاما ، كانت ملكيات عائلة طاهر باشا تصل إلى 150 , 14 ألف فدان ، منها 100 فدان تدفع ضريبة بوصفها أرض المأمور . كما أن محّو بك ، وهو شخصية سياسية مهمة في البلاد ، بدأ في تجميع إقطاعية كبيرة جدا قريبا من قلقشندة تقريبا في 1820 وخلال العام المالي 1822 – 1823 ، بقيت أرض مساحتها 428 , 41 ألف فدان من أراضي الرزق الخاصة بصورة أساسية في جرجا ومنفلوط بالوجه القبلي . وهذه كانت تمثل أكثر من 8% من الأراضي المنزرعة في ريف هاتين المدينتين . وانتشرت الأبعاديات الكبيرة في أنحاء البلاد خلال أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر أيضا ، رغم أنها لم تحظ باعتراف رسمي حتى بعد عام 1826 .
وتمثل رد فعل العمال الزراعيين في مواجهة هذه الظروف في ثلاثة مسارب . هرب بعض الفلاحين الفقراء من المناطق التي بدأت تعاود الظهور بها الملكيات الزراعية الكبيرة نسبيا . ويلاحظ عبدالرحمن الجبرتي أنه في خريف 1818 هجر عدد كبير من الفلاحين الأراضي التي أغرقتها مياه الفيضان بصورة غير عادية ، وبعد 4 سنوات صار هروب الفلاحين أمرا معتادا حتى إن الإدارة المركزية أصدرت أوامر لوكلائها المحليين باتخاذ إجراءات للحيلولة دون مزيد من الهجرة ، وإعادة الذين هربوا إلى مواطنهم الأصلية . وأولى القناصلة الأجانب اهتماما خاصاص لأعداد الفلاحين الهاربين المتزايدة من الريف في منتصف عهد محمد علي ، وأوردت تقاريرهم أن تعداد سكان القاهرة والإسكندرية قد زاد إلى عشرات الألوف .. إذ بدأ ظهور الأكواخ المكتظة بالفارين من الأقاليم على حدود ضواحي كبرى مراكز المدن . ومارس عمال زراعيون آخرون تخريب أو تدمير معدات الإقطاعيات التي عادت للظهور . وفي خريف 1819 أدت الزيادة الحادة في حالات السرقة والنهب في أنحاء البلاد لعقد الجبرتي مقارنة بينها وبين تلك السنوات التي عاثت فيها الفوضى قبل الاحتلال الفرنسي مباشرة ، وهي الرؤية التي لابد أن شاركه فيها بالتأكيد النخبة الزراعية بالبلاد . ودأب فلاحون آخرون على التمرد الفعال في مواجهة التغيرات الحادثة في ملكية الأراضي بالأقاليم . وفي مايو من عام 1823 اندلعت ثورة واسعة النطاق بالمنوفية في مواجهة ارتفاع الضرائب المفروضة من أجل دعم ملاك الأراضي الجدد ، وترافقت هذه الثورة مع سلسلة من التمردات الكبيرة عمت الصعيد بين عامي 1820 و 1824 ، ورغم أنها كانت تتعلق أساسا بالتغيرات في عمليات الصناعة بالأقاليم ، إلا أنها كانت ترجع جزئيا إلى عودة ظهور طبقة كبار ملاك الأراضي في قرى الصعيد .
غير أنه يمكن البرهنة على أن أهم آلية سياسية داخل القطاع الزراعي بالبلاد حول عام 1820 كان مقاومة الأعيان المحليين في الأقاليم لعودة ظهور كبار ملاك الأراضي بمصر . ومع الإلغاء الرسمي للالتزام في عام 1813 تحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لشيوخ القرى في الريف بشكل لافت . ويوضح كونو Cuno أن هؤلاء المسئولين بدأوا ينتزعون لأنفسهم المقدمات النفدية وباقي أشكال العائدات غير العادية من وكلاء الحكومة بالريف في نهاية العقد الثاني من القرن الثامن عشر ، وفي الوقت نفسه باتوا يحتلون مواقع بوصفهم وسطاء بين الاحتكارات الحكومية والمنتجين الزراعيين والصناعيين المحليين . كان شيوخ القرى يجمعون المحاصيل لمخازن الحكومة خلال الأعوام الأولى لنظام الاحتكار ، ويشرفون على صيانة شبكات الري وتوسيعها في مناطق سيطرتهم ، ومع باقي مسئولي الحكومة المحليين كانوا ملزمين بمسئولية اتقان الفلاحين لأداء الأعمال الموكلة إليهم ، وربما كان بعضهم يتولى دورا إضافيا في الإشراف على غزل الكتان والقطن في مناطق الريف كوكلاء معينين من الإدارة المركزية .
وترتب على ذلك ، أن احتل شيوخ القرى وضعا قويا في الشئون السياسية والاقتصادية في نطاق هيمنتهم بين عامي 1820 و 1824 . ويذكر كونو أنه في قرى معينة كانت أسرة شيخ القرية تمتلك أكثر من نصف الأراضي المزروعة . واستفادت هذه العائلات من عدم التناسب في إعادة توزيع أراضي (الرزق) والوسايا التي واكبت إلغاء نظام الالتزام ، حتى إنهم استفادوا أكثر من قرارات الحكومة في بعض الأحيان نحو عام 1815 بإعفاء أراضيهم من الضرائب باعتبارها إما أراضي مسموح المشايخ التي كان تستخدم عائداتها كتعويض للمشايخ مقابل أدائهم لواجباتهم الرسمية ، أو أراضي مسموح المصاطب التي تستخدم لتوفير الضيافة للزائرين من أصحاب المقام الرفيع . وكنتيجة لهذه السياسات ، أصبح بعض شيوخ القرى هم ملاك الأراضي المهيمنين على قطاعاتهم .
على سبيل المثال ، واستنادا إلى كونو Cuno : "في غضون الفترة من 1813 إلى 1821 ، كانت توجد العديد من الأسر ذات الملكيات الكبيرة في قرية سلّنت ، كانت كل عائلات المشايخ ، قد تسلموا أراضي إضافية عند إعادة تنزيع الوسية في عام 1813 . وفي عام 1821 كان الشيخ دياب طاجن من أكبر ملاك الأراضي ؛ حيث كان يمتلك 137 فدانا . وأصبح على هاني ، من عائلة شيخ القرية ، يمتلك 65 فدانا بالمشاركة مع محمود دياب في عام 1821 .. في حين أن العائلات الأخرى من أصحاب الملكيات الكبيرة في سلنت فقدت أملاكها" .. وفي رأيه أن "قرية سلنت التي تتوفر لدينا معلومات عنها مقارنة بقرية بدواي أو ويش الحجر ، ربما كانت نموذجا لأغلب القرى في هذه الفترة ، حيث كان بمقدور أسرة واحدة من بين ثلاث أسر غنية الاحتفاظ بوضعها الاقتصادي وتحسينه ، بينما تتناقص ثروة الآخرين" .
استطاعت معظم هذه العائلات أن تجعل منصب شيخ القرية وراثيا في نهاية العقد الثاني من القرن التاسع عشر . ويبين كونو Cuno أن 28 أسرة بالدقهلية احتفظت بمنصب شيخ القرية (العمدة) طوال عصر محمد علي . ويستخدم "جابريل باير" Gabriel Bear شواهد قصصية للتدليل على ان هؤلاء المشايخ حولوا بالتدريج أراضيهم إلى ملكيات خاصة بداية من عشرينيات القرن التاسع عشر . وتستنج عفاف لطفي السيد مرسو أنه نتيجة لهذه الاتجاهات "فإنه .. ليس أمرا يدعو للدهشة وجود عمد وشيوخ وكذلك بدو بين أوائل المتعهدين ، ولم يكن من غير المعتاد رؤية أن السيطرة على جميع المقاطعات تنحصر في عائلات محددة . على سبيل المثال فإن عائلة الشواربي في قليوب تتولى منصب العمودية في ثلاث قرى من خمسة . وفي الغربية ، تولى منصب العمدة من عائلة سالم خمسة أفراد" . لذلك أصبح مشايخ القرى قوة ذات نفوذ في السياسات الإقليمية في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر ، يتحدون ليس فقط إمكانية عودة بروز النبلاء لاحتلال مواقع مؤثرة في الريف بل أيضا قدرة الإدارة المركزية على توجيه عمليات احتكارات الدولة . وتركت هذه الاتجاهات نظام الحكم مرة أخرى معرضا لتحديات خطيرة من الفلاحين الفقراء والصناع المهرة بالأقاليم ، وهو ما يحض على مسئوليات أكبر لتدخل الدولة في الشئون الريفية مع افتتاح القرن التاسع عشر .